بإمعان النظر في كل شيء، سنجد ان السنوات الثلاث الماضية لم تكن إيجابية ومواتية للولايات المتحدة الأميركية: ها هو العجز في تصاعد، وها هي فرص العمل في الميدان الصناعي تتلاشى، إضافة إلى تعرض البلاد للهجوم وانخراطها الآن في الحرب على الإرهاب التي تزداد تعقيداً والتي سيكون من الصعب في معمعتها وغبارها وضع تعريف للنصر· الآن فقط يبدو أن الاقتصاد آخذ في الخروج من مستنقع الركود·
وفي مواجهتها لهذه الصورة، تنظر الإدارة الأميركية الآن في خطة عمل تتصف بالجرأة· وإذا ما تم انتخاب (بوش) لفترة رئاسية ثانية تبقيه موقع الحكم، فإن الإدارة ستنفذ خطة للسفر إلى القمر! أجل، هذا صحيح، وقد وردت أنباء في الأشهر القليلة الماضية تفيد بقيام (ديك تشيني) نائب الرئيس الأميركي بعقد اجتماعات غير علنية مع أعضاء في (الكابيتول هيل) ومع مسؤولين في وكالة (ناسا) بغية مناقشة إمكانية عودة الولايات المتحدة إلى برنامجها الفضائي المفضّل لديها لكي تقوم هناك بقذف كرات الغولف!
لكن السؤال الواضح للعيان يتمحور حول ما إذا كان الرئيس قد أفلس من الأماكن فلا يجد الآن على كوكب الأرض بقعة لجمع الممولين وجامعي التبرعات· وعلى رغم ذلك يقول وكلاء دعاية الرئيس (بوش) إن تلك ليست بالمشكلة···حتى الآن·
كلا، ففي الأسبوع الماضي تم هنا في واشنطن تسريب إشاعات حول العودة المحتملة إلى القمر، وقد أتى التسريب تحت راية توحيد الأمة الأميركية تحت لواء (الفكرة الكبيرة) التي تحقق وحدة كل الأميركيين على اختلاف شرائحهم ومشاربهم· وقال أحد مسؤولي الإدارة لصحيفة (واشنطن بوست):(أعمال كبيرة ضخمة· الضخامة تجذب الانتباه)· ها قد صارت لك يا أميركا خطة للمستقبل، وها هي الخيارات الأخرى التي يدرسونها وينظرون فيها الآن: بناء ناطحة سحاب يجري دفع تكاليفها بسحب 20 دولاراً من جيب كل مواطن أميركي، إضافة إلى صنع أكبر سندويشة لحم وجبنة وخضار في العالم كله!
إن ذلك لا يعني عدم وجود خطأ على السطح وفي ظاهر فكرة (الفكرة الكبيرة)، إذ أن توحيد البلاد حول غاية مشتركة إنما هو جزء مما يفعله الرئيس الآن· غير أن النظر في سلسلة واسعة من المشكلات، التي تواجه الأمة الآن في الداخل والخارج، إنما يعني أن من البطر أن ننطلق بحثاً عن مزيد من المشكلات هنا وهناك ونحن لدينا منها فائض كبير· وفيما وراء نطاق غرابة خلق المزيد من العقبات في عالم بات أشبه ببحر من العقبات، هناك سؤال أكبر وأوسع نطاقاً يدور حول ما إذا كانت هذه الإدارة على تماس مع الواقع حتى الآن·
في السنوات الأولى من عهد الإدارة الأميركية الحالية حدث اقتطاعان ضريبيان كبيران وتغيير في تعويضات مشتريات الدواء بموجب وصفة طبية والتي يقدمها برنامج الرعاية الطبية Medicare إلى المواطن الأميركي، وهو تغيير من شأنه أن يكلف نحو 2 تريليوني دولار على مدى السنوات العشرين - ومن المقرر أن يتم في السنة المقبلة فرض اقتطاع ضريبي ضخم خاص بالشركات· إن الإدارة الأميركية الحالية، وهي سلفاً ليست في وضع يحقق الأرباح، غارقة الآن في ديون بلغت 500 مليار دولار، ومن المرجح أن يتعاظم هذا الرقم في المستقبل·
وبالنظر في كل الأمور، يبدو أن من الصعب علينا أن نرى منطقاً في تضخيم الديون الهائلة الضخمة أصلاً، وذلك بموجب خطة للسفر بكل جرأة إلى حيث سافرنا منذ ثلاثين عاماً أو أكثر· لا شك في أن استكشاف الفضاء مهمة تستحق الجهد في سبيل الأمة، لكن من الصعب عليهم أن يدافعوا عن إنفاق مبالغ مالية هائلة على هذه المهمة في حين أن هناك قصوراً وعجزاً في تمويل قطاعات أهم مثل الأمن الداخلي والتعليم·
إن افتقار الإدارة الأميركية الحالية إلى حس المسؤولية المالية قد قطع شوطاً بعيداً واشتط فتحول من شيء يبهر الأنفاس ويذهل وصار شيئاً كوميدياً هزلياً· وقال أحد الاقتصاديين المحافظين في الأسبوع الماضي:(إن حالة الميزانية آخذة في الخروج عن مسارها إلى درجة لا يمكن عندها اقتراح أية اقتطاعات ضريبية دون أن يبدو ذلك تصرفاً على أقصى درجات الغباء)· الخروج عن المسار؟! أجل و القطار المالي يسير الآن وفي هذه النقطة على الرصيف الجانبي ويهدد بدهس كل المشاة وبمسحهم عن وجه الأرض مسحاً!
فلماذا والحال كذلك طلعوا علينا وأتحفونا بمشروع السفر إلى القمر؟ إن الوقائع الحقيقية التي تحتجب وراء بالون الاختبار الأحدث هذا في جملة بالونات البيت الأبيض هي الوقائع ذاتها والخفايا المستترة وراء الكثير من المقترحات التي قدمتها الإدارة الحالية: إنها المظاهر·
وكلما علقت الإدارة الحالية في مأزق من أي نوع كان، يكون ردها أحد اثنين: فإما أن تنتقد خصومها أو تغير الموضوع· فعندما تعجز مثلاً عن جعل العراقيين يقومون بصياغة الدستور الجديد، فإنها تبادر بالموافقة على الدعوة إلى إجراء انتخابات وطنية· وعندما تعجز عن العثور على أسلحة التدمير الشامل- التي كانت في الأصل ذات يوم سبب ومبرر غزو العراق، فإنها تسارع إلى ادعاء أن العملية كلها إنما تتمحور حول دفع عملية الديمقراطية هناك!
ومع الدخول ف